انتقلت سنة 1990م إلى مدينة حمد وهي إحدى مدن البحرين، وتعرفت هناك على رجل كبير في السن ُيدعى الحاج عبد الله الحداد. سألني عن اسمي وعن مدة دراسـتي وفي أين درسـت فأخبرته بذلك كله، ثم سـألني مرة أخرى: هل تعلمت العلم؟ قلت: نعم. فقال: هلم تعلمت أم العلم؟ فقلت له وما هي أم العلم؟ فتبسم الحاضرين الذين هم أكبر مني سناً وكأنهم يعرفون القصة التي أنا لم أعرفها، فأخبرني بالقصة. كان هناك شاب في إحدى القرى أراد أن يطلب العلم وكان قد تزوج ودخل على زوجته ثم سافر عنها عشر سنوات. ولما أراد الرجوع من الدراسة إلى أهله مر على مزرعة فوجد فيها شيخاَ كبيراً فسلم عليه. فسأله الشيخ: من أين أتيت؟ فقال العالم: من العلم. فقال له الشيخ الكبير: أنت درست العلم، فهل درست أم العلم؟ فقال العالم: وما أم العلم؟ فقال لا أجيبك حتى تعمل عندي سنة كاملة..... . فوافق العالم، وبعد انتهاء السنة قال الشيخ الكبير إلى العالم: أم العلم الحلم. فقال العالم سنة كاملة على هذه الكلمة مستقلاً من شأنها... وبعد ذلك رجع العالم إلى أهله وكان الوقت ليلاً، طرق الباب على أهله ولم يرد عليه أحد. ثم دخل إلى منزله بطريقته الخاصة ودخل غرفة نومه فوجد زوجته نائمة وبجانبها شخص آخر في نفس السرير. فغضب وأراد أن يقتل زوجته ومن معها ولكنه تذكر قصته مع الشيخ الكبير، هل درست أم العلم؟ هل درست أم العلم؟ فأجلس زوجته غاضباً ومتسائلاً عن الذي ينام معها! فقالت له
الغضب وعلاجه ===============================3
وهي مرحبة به: أهلاً أهلاً، هذا ابنك أصبح عمره إحـدى عشر عاماً، لقد لقيت ما يلقي الرجال على النساء، فأنجبت لك هذا الولد. فقال العلم: لولا هذه السنة لضاع العلم! فالحلم أم العلم.
إن علم النفس يغور في أعماق بني البشر، ويتدخل في كل شأن من شؤونهم، ولا نستطيع أن نحدد، ولا مجالاً واحداً، في حياة الناس، ولا يستوعبه علم النفس فهو يغطي جميع أوجه النشاط البشري، والممارسات الحياتية..
والغضب نوع من أنواع النشاط النفسي، ولون من ألوان الانفعال لدى الإنسان وغريـزة من الغرائـز التي أودعهـا الله في طبيعـة البشـر، وهـو (استجابة) في قبال (مثير). فأنت حينما يُساء إليك، لابد وأن تكون لك ردة فعل فالإساءة مثير مهما كان شكلها والرد عليها استجابة مهما كان نوعه..
ويمكن تصور الاستجابة على ثلاث صور:
1) إساءة بإساءة، وهو الشكل السائد في الطبيعة البشرية، الذي يتصف به أكثر الناس، وعليه عامّتهم.
2) سكوت على إساءة، وهو كظم الغيظ، ومحاربة الطبع والهوى، والتغلب على النفس، (الحلم عند الغضب).
3) إحسان على إساءة، وهو خلق عظيم، لا يتحلى به إلا ذوو النفوس الكبيرة، وأصحاب الهِمَمِ العالية، والطباع الشريفة.
الغضب وعلاجه ===============================4
تعريف الغضب:
الغضب عبارة عن حالة نفسانية تهيج العنف في داخل الروح فتظهر آثارها منعكسة في البدن. حين تدخل هذه الحالة النفسية ضمن عملية (الاستجابة والمثير) تختلفهذه الاستجابة من شخص لآخر، ويتفاوت سلوكٌ عن آخر، ونفسية عن أخرى ولكن يبقى الغضب (حالة استنفار للنفس) ربما تؤدي إلى ردود فعلٍ لا تحمد عقباها، من هنا شبّه أمير المؤمنين علي عليه السلام، الحدة والغضب بالجنون، فقال:”الحـدة ضرب من الجنون، لأن صاحبها ينـدم، فإن لم يندم فجنـونـه مستحكم”. وعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:”الغضب يفسد الإيمان، كما يفسد الخل العسل”. وقال الإمام جعفر ابن محمد الصادق عليه السلام:”الغضب مفتاح كل شـر”. وقيل: من أطاع الغضب، أضاع الأدب... كل ذلك لأن النفس تتحول عن طورها الطبيعي إلى الهيجان والانفعال، ومن ركودها إلى الغليان والثورة، والتوتر الشديد، وحب التخريب، وشهوة الانتقام والهدم، والإعراض عن الوقار والرزانة، إلى سيكولوجية الاعتداء والضرب، وإطلاق التهديدات، وما إلى ذلك من الردود العقابية.. فهي حالة جنونية!!.
ولكن هذه الثورة النفسية سرعان ما يخمـد لهيبها، وينطفئ نارها،ويلحق الإنسان بعد ذلك ندمٌ على ما بَدَرَ منه في تلك الحالة، وهو من فضل الله على
الغضب وعلاجه ===============================5
الناس، أنْ جعلهم بهذه الصورة، بحيث لا تدوم الآثار النفسية للغضب معهم طويلاً. ولو لم يكن المرء كذلك، أي لو لم يكن يندم على السلوك الانفعالي في حالة الغضب، لكان مجنوناً بالفعل، يحتاج إلى ممارسة العلاج النفسي للتخلص من هذا المرض، كما صرح بذلك الإمام عليه السلام.
ولنستمع إلى تعريف آخر للغضب - للشيخ الجليل العلامة النراقي - لا يخلو من فائدة: يقول:”الغضب كيفية نفسانية موجبة لحركة الروح من الداخل إلى الخارج للغلبة ومبدؤه شهـوة الانتقام، وهو من جانب الإفراط، وإذا اشـتد يوجـب حركة عنيفـة، يمتلئ لأجلها الدماغ، والأعصاب من الدخـان المظلم، فيسـتر نـور العقـل، ويُضعِف فعله، ولذا لا يؤثر في صاحبه الوعظ والنصيحة، بل تزيده الموعظة غلظة وشدة”.
“قال بعض علماء الأخلاق ـ والكلام للنراقي ـ الغضب شعلة نار اقتُبِست من نار الله الموقدة، ولكنها لا تطلع على الأفئدة، وإنها لمستكنّةٌ في طي الفؤاد، استكان الجمر تحت الرماد وتستخرجها حمية الدين من قلوب المؤمنين، أو حمية الجاهلية والكبر الدفين، من قلوب الجبارين التي لها عرق إلى الشـيطان الرجيم، حيث قال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) فمن شأن الطين السكون والوقار، ومن شأن النار التلظي والاستعار”.
الغضب وعلاجه ===============================6
يذكر الشيخ في هذه المقطوعة بعد تعريفه للغضب: إن فيه الإفراط والتفريط وفيه الاعتدال والحد الوسط، وهو حق... إذ إنه غريزة أودعها الله فينا، ولم تودع اعتباطاً، بل لغرض معين، وحكمة بالغة ولابد منه في حياة الإنسان.
فربما كان الغضب في محله مناسباً، كالغضب لأجل الله، وذلك الذي ينطلق من حمية الدين، ومن قلوب المؤمنين، وربما لم يكن في محله، فهو إفراط في حالة الانفعال الشديد، ناتج عن إلقاءات الشيطان الرجيم وإيحاءاته...
بعبارة أُخرى: إن هذه الحركة النفسية، ربما تتسم بالإفراط، أو بالتفريط أو بالاعتدال.
الناس على ثلاثة أقسام:
الناس على ثلاثة أقسام من حيث الغضب بين إفراط وتفريط ويتوسطهم قسم ثالث وهو أفضلهم ألا وهو الاعتدال.
فالإفراط فيها: أن تخرج من إطار العقل والعرف والشرع، ومن طاعة الله عز وجل، فتعمي الفكر والبصيرة... وتجرّ إلى المهالك والمساؤى، فتكون استجابة عنيفة، مبالغ فيها، خارجة عن الحد المطلوب.. وفي هذه الحالة يحتاج المرء إلى كظم الغيظ، واجهاد النفس في سبيل عدم الاستجابة والانفعال بالغضب، وسنتحدث عن ذلك إن شاء الله. والتفريط فيها: أن تتسم الاستجابة بالبرود واللامبالاة وعدم الرد، في حال يقتضي منه الرد، ويتحتم عليه شرعاً وعقلاً أن