نتحدث هنا بإيجاز عن نظرية العفو فـي الإسلام وسنحاول طرح الموضوع فـي ثلاث نقاط طلباً للاختصار وتعميماً للفائدة .
النقطة الأولـى : ندب الإسلام إلـى العفو والصفح بين المسلمين بطرق شتى ولم يفرضهم فرضاً وفـي مقابله شرع الإسلام العقوبة ليشعر الإنسان أن حقوقه مصونة ومحفوظة . ويكون عفوهم بعد ذلك سـماحة خالصة تتم عن طيب نفس لا طاعة مزيفة فليس فـي طبيعة الإنسان أن يتخلى عن جميع حقوقه فـي جميع الأحوال وقد جاءت كيثراً من الآيات الكريمة التي ورد فيها ذكر العقوبة مع العفو تارة قبل وتارة بعده .
قال تعالـى : " عفى الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام " المائدة 95 " اعلموا أن الله شديد العقاب وإن الله غفور رحيم " المائدة 98 " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب " الرعد 6 " نبئ عبادي إنـي أنا الغفور الرحيم وإن عذابـي هو العذاب الأليم " الحجر 49 ، 50 " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيراً للصابرين " النحل 126 " غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول " غافر 3 .
ومن خلال تتبعنا لهذه الآيات نجدها صريحة فـي أن للعقوبة موضعها وللعرف موضعه ، فهي قد انتهجت طريقاً وسطاً بين العقوبة والعفو فهو أدعى بالحزم وأدعى إلـى السلم والأمان . فلو شرعت العقوبة وحدها لملأت البغضاء القلوب ولو شرع العفو وحده لسادت الفوضى واستهتر المجرمون .
النقطة الثانية : ذكرنا آنفاً إنه ليس من طبيعة النفس البشرية العفو والصفح عمن أساء إليها أو اعتدى على حق من حقوقها بل من طبيعتها الانتقام والثأر ولهذا نجد أن الإسلام كما قدمنا قد رغب فـي العفو ترغيباً وندب إليه ندباً ولم يفرضه فرضاً ومن وسائل وطرق الترغيب فـي العفو نجد أن الله تبارك وتعالـى وصف نفسه بالعفو ووصف به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطلبه منه ، ووصف به المقربين المخلصين من عباده لتكون مُثلاً عليا فـي حياة المسلم وقدوة للعباد يهتدون بهم ويستينرون بهداهم دون أن يلزمهم به .
لنقرأ الآيات الكريمة التي وصف الله تعالـى بها نفسه بالعفو . قال تعالـى : " ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون " البقرة 52 " ومن يغفر الذنوب إلا الله " آل عمران 135 " ولقد عفونا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين " آل عمران 152 " ولقد عفـى الله عنهم إن الله غفور حليم " آل عمران 155 " كتب ربك على نفسه الرحمة من عمل منكم سوء بجهالة ثم تاب من بعد وأصلح فإنه غفور رحيم " الأنعام 54 " وهو الذي يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات " الشورى 5 .
ومما وصف الله به رسوله الكريم (ص) أو أمره به قوله عز شأنه " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم " آل عمران 159 " ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح " المائدة 13 " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن الكثير : المائدة 15 " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " التوبة 128 " ادفع بالتي هي أحسن " المؤمنين 96 " فاصبر صبراً جميلاً " المعارج 5 .
ومما وصف عباده المقربين قوله تعالـى " والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار " الرعد 22 " وعباد الرحمن الذين يمشون على هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " الفرقان 63 " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولـي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " فصلت 33 ، 35 " .
وهذه المثل العليا الثلاثة تنير السبيل لمن شاء أن يتشبه بصفات الله تعالـى فإن أعجزه ذلك تمثل بأخلاق الرسول (ص) فإن عز عليه ذلك جاهد نفسه أن يكون من طبقة خاصة من المؤمنين ، فالحكمة بليغة وضعت أمامنا هذه المثل العليا ، ولحكمة بليغة كانت على هذا التدرج .
النقطة الثالثة : لو علم الله تعالـى إن النفس البشرية تميل إلـى العفو لأمر به أمراً ، ولكنه عز شأنه يعلم أن الطبيعة البشرية تنفر من الأمر المباشر لها ، هذا من ناحية وناحية أخرى إنها لا تأتمر بما تشعر أن فيه تجاوز على حقها ، لذلك لم يأتـي العفو بصيغة الأمر إلا قليلاً ، وإنما جاء بصورة مرغبة نادبة "وإن تعفو أقرب للتقوى" البقرة 237" فقد جعل العفو أقرب للتقوى إذاً عدم العفو أبعد عن التقوى "سارعوا إلـى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون فـي السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن والله يحب المحسنين "آل عمران 133 ، 134" .
وننبه هنا إلـى نكتة دقيقة جديرة بالانتباه وهي أننا نلاحظ أن الرسول (ص) يتلقى صيغة الأمر المباشر من الله تعالـى دون وجود المرغبات فـي العفو وهذه الصيغة خاصة بالرسول (ص) حيث أنه (ص) لديه الاستعداد الروحي لأن يؤمر بالعفو بصورة مباشرة ، أما سائر الناس فليس لديهم تلك الروح العالية لتلقي الأمر المباشر بالعفو ، بل يصحب الأمر بالكثير المرغبات ، فتجد أن صيغ الأمر يسبقها أو يلحقها فـي كثير من الآيات عبارات ملطفة لتتهيأ نفس الإنسان لقبول الأمر بالعفو عن خصمه والتنازل عن بعض حقوقه قال تعالـى " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولـي القربى والمساكين والمهاجرين فـي سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم "النور 22" ومن أحسن قولاً ممن دعا إلـى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولـى حمي وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم "فصلت 32 ، 35. وهذا من باب الإغراء ، لأن هذه النفوس ليست لها القدرة كما للرسول (ص) فاحتاجت إلـى الندب والإغراء والحث لتقدم على العفو بنفس راضية ، ولهذا تجد أنه فـي الخطاب الحديث لا تستخدم صيغ الأمر فـي ميادين الحياة المختلفة ( التربوية ، الاجتماعية ، السياسية ... ) بل تستخدم بصور أخرى أكثر تلطفاً مع الآخرين ( لو سـمحت ، من فضلك … )